
النيل الأزرق.. مواطن الإقليم على حافة الحياة
الدمازين: الغد السوداني
في الجزء الجنوبي الشرقي للسودان، تتجلى معاناة إقليم النيل الأزرق كمرآة تعكس الألم الذي يعيشه إنسان السودان خلال الحرب التي اشتعلت نارها قبل عامين. فمعاناة المواطنين بولاية النيل الأزرق لم تكن وليدة اللحظة، أي مع الحرب الجارية حالياً، فمنذ سنوات يعاني المواطنون من أزمات متتالية، زادتها الحرب الحالية حدة وتعقيداً، مما جعل المواطنين يلهثون وراء البقاء.
والشاهد يرى أن ولاية النيل الأزرق شهدت موجات عاتية من النزوح المتكرر بسبب الصراعات المسلحة بين القوات الحكومية والحركات المسلحة، ثم تلتها الحرب الأخيرة التي قضت على الأخضر واليابس، لتعيد آلاف الأسر إلى نقطة البداية. حيث يعاني إنسان النيل الأزرق من نقص في الغذاء وغياب الخدمات الصحية بجانب تدهور البنية التحتية.
يقول المواطن عبد العزيز مصطفى، وهو نازح: “حاصرتنا الظروف التي قست علينا خلال فترة الحرب، حيث هربنا من أصوات البنادق والرصاص لكننا وجدنا الجوع والمرض. فالمساعدات التي تصل للنازحين لا تفي بالاحتياجات اليومية.”
وأضاف بحسرة: “المرافق الصحية تكاد تكون خارج الخدمة بسبب ضعف الخدمات التي تقدمها، ويعاني السكان من انعدام الأدوية ونقص الكوادر الطبية، مما يجعل أبسط الأمراض مهدداً حقيقياً للحياة.”
ولفت إلى أن القطاع التعليمي شبه متوقف من نشاطاته لأن غالبية المدارس تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، وتوقف العام الدراسي في عدد كبير من المناطق بسبب انعدام الأمن وتشتت الأسر.
وقال عبد العزيز لـ(الغد السوداني): “على الوزارة الالتفات لقضية التعليم، ويجب على وزارة التربية والتعليم في النيل الأزرق العمل على إلحاق الطلاب بالعام الدراسي المقبل الذي تبقت له أقل من شهرين، لأن إغلاق المدارس سيقود بلا محالة إلى جهل جيل المستقبل الذي نعول عليه لقيادة الولاية نحو الإشراق.”
فيما وصفت المواطنة نجاة أحمد تردي الأوضاع الصحية بالمزرية، وقالت لـ(الغد السوداني): “إن المستشفيات التي تعمل تفتقر لكثير من الأساسيات، بجانب الافتقار إلى الكوادر الطبية ذات الخبرة الكبيرة.”
وزادت: “هناك مشاكل صحية سببتها مياه الشرب. هناك الكثير من الأمراض التي تسببها المياه منتشرة بشكل كبير، مما أدخل المواطنين في دائرة المعاناة، ومن الأمراض التي تسببها المياه: البلهارسيا، الكوليرا، وغيرها من الأمراض التي أصبحت مستوطنة في الإقليم.”
وأشارت إلى أن التدخل الحكومي ضعيف مقارنة بحجم الكارثة الصحية التي تشهدها ولاية النيل الأزرق، ما يدل على إهمال وتقصير من قبل الدولة، حيث لا وجود واضحاً لمؤسسات الدولة في تقديم العون أو الحلول.
وقالت: “بعض الأسر اعتمدت على مبادرات مجتمعية ضئيلة لا تفي بحجم الكارثة، تحاول المبادرات تقديم شيء كـ توزيع الوجبات والمساعدات العينية للمواد الغذائية، رغم قلة الإمكانيات.”
ولفتت إلى أن مراكز الإيواء التي تضم العائدين من دولة جنوب السودان تعاني أوضاعاً مأساوية لعدم توفر الغذاء والدواء، وتفشي أمراض متعددة من بينها الحميات والكوليرا والأمراض الجلدية.
وتابعت قولها: “هناك منظمات دولية تعمل في مجال حقوق الإنسان تدخلت بإرسال عيادات متنقلة تقدم خدماتها في مناطق العزل المؤقت خارج المدن، وعلى مقربة من تجمعات المواطنين.”
وأوضحت نجاة أن السبب وراء تفاقم الأوضاع في النيل الأزرق هو الجفاف المستمر منذ أكثر من أربعة أشهر، لأن المنطقة تعاني من ندرة في مصادر المياه، مما يجعلها عرضة لانتشار الأمراض المنقولة بالمياه.
وكشفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن أعداد العائدين من دولة جنوب السودان إلى النيل الأزرق، والتي تُقدر بـ(77) ألف عائد وعائدة.
وأشارت الأمم المتحدة إلى أن استمرار انعدام الأمن والعراقيل البيروقراطية منعت الشركاء الإنسانيين من الوصول إلى المحتاجين في مناطق النيل الأزرق.
في السياق نفسه، يرى المواطن محمد من محلية قيسان بولاية النيل الأزرق أن الولاية غير صالحة للعيش حالياً لأن الحرب ألقت بظلالها على كافة القطاعات الصحية والاقتصادية.
وقال لـ(الغد السوداني): “الحرب الجارية حرمتنا من وجود الدولة، الأمر الذي أدى إلى نقص الخدمات الأساسية. فالحياة صعبة والكلمات تقصر عن وصف الظروف المعيشية.”
واستغرب محمد من تحول الولاية، التي كانت يوماً خضراء غنية بالماء والأرض وكانت رافداً للاقتصاد السوداني، إلى منفى داخلي قبع فيه أهلها تحت حصار الجوع والخوف والإهمال.
وقال: “ليست الحرب التي نشبت مؤخراً بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع سبباً فيما وصلت إليه الولاية من التراجع المريع في كافة مناحي الحياة، بل الصراعات العرقية المستمرة، وتدهور البنية التحتية، وانتشار الفقر، كلها أسباب أدت إلى ما وصل إليه حال إنسان النيل الأزرق.”
ولفت إلى أن الولاية ليست بها مراكز صحية مؤهلة، وأن الحالات الخطرة تُنقل على ظهور الدواب (الحمير) أو لا تُنقل إطلاقاً. وطالب وزارة الصحة الاتحادية بفتح مستشفيات ومراكز صحية بشكل عاجل لتعود إلى الخدمة وتخفف المعاناة عن كاهل المواطن المغلوب على أمره.
وزاد بحسرة: “النيل الأزرق لا تموت ولكنها تحتضر، وسكانها ليسوا مجرد أرقام في تقارير المنظمات الدولية، بل يستحقون الحياة الكريمة.”
فيما شكا مواطنون لـ(الغد السوداني) من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأن الأسواق باتت لا تُطاق. وقالوا إن الأحوال الاقتصادية مزرية، وأصبحت الطماطم تُباع بنظام القطعة الواحدة، وإن أغلب الأسر تتناول وجبة واحدة في اليوم، كما أن العديد من الأسر فرت داخلياً أو خارجياً إلى دول الجوار.
وأشاروا إلى أن بعض الحبوب (الذرة، الدخن) موجودة في الأسواق بكميات محدودة وبأسعار مضاعفة، وغالبية المواطنين فقدوا مصادر دخلهم (الزراعة توقفت)، وبعض الأسر تعتمد على الحوالات أو الدعم الخارجي.
وأضافوا في حديثهم لـ(الغد السوداني): “معظم سكان النيل الأزرق اليوم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الغذائية اليومية، فالغذاء موجود لكن الأسعار تفوق دخل المواطنين، والوضع ينذر بكارثة في المستقبل، خاصة في محليات ومناطق الولاية الطرفية مثل شمار، قيسان، باو، والتضامن.”