`أيديولوجيا التفكيك من أجل الاختزال وخلق الاختلال`
بقلم: عروة الصادق
● ليست الأيديولوجيا مجرد منظومة فكرية تسعى لإقناع، بل أداة هندسية لتفكيك المجتمعات وإعادة تركيبها تحت قناع الخلاص، فهي لا تكتفي بالتبشير بالأفكار، بل تقوم بإعادة قولبة الواقع لصالح كياناتها البديلة، وتنتج بنى موازية، تخترق الدولة، وتحتل العقل الجمعي، قبل أن تفترسه في لحظة ضعف أو غفلة، والنموذج السوداني ليس استثناءً، بل هو أقصى درجات تجلّي هذه الظاهرة، حيث قامت جماعة الإسلاميين بإنتاج نموذج ما يمكن تسميته بالاستيلاد الأيديولوجي للدولة والاستيلاء عليها، أي تحويل الدولة من كيان سيادي عام إلى رحم خصب يُنتج مؤسسات تخدم الجماعة وتعيد إنتاج ذاتها.
● في عام 1989م لم ينقلب الإسلامويون بقيادة الراحل الترابي في السودان على السلطة فحسب، بل انقلبوا على فكرة الدولة ذاتها، لم يكتفوا بإعادة توزيع السلطة، بل أعادوا تعريف ماهيتها، لتصبح الدولة أداة للتمكين، لا للخدمة، وتم بناء نموذج دقيق وممنهج من الدولة الظلية عبر مسارات ثلاثة:
– أولها: لاستيطان المؤسسي عبر ما عرف بـ”الصالح العام”، حيث لم تُعامل مؤسسات الدولة كمرافق وطنية بل كمواقع للتمكين العقائدي، فتم تفكيك الخدمة المدنية، وإحلال عناصر الولاء العقائدي محل الكفاءة، ومصادرة الإعلام والتعليم والجيش لصالح التبشير والقمع.
– ثانيها: بناء اقتصاد موازٍ مؤدلج، حيث أُسّست شبكة اقتصادية سرية وعلنية شملت شركات استثمار ومؤسسات زكاة وبنوك إسلامية، عملت كخزينة فوق الدولة ورافد تمويلي للتنظيم.
– ثالثها: اختراق المجتمع عبر مؤسسات بديلة وواجهات مصنّعة بدقة، مثل اتحادات طلابية مؤدلجة، لجان دعوية محلية، ونظام ديني موازي، وقطاعات مرأة، وما عرف بمجالس الذكر والذاكرين وجمعيات القرآن الكريم، صنعت لتكون جاهزة للانفصال والانقضاض حين ينهار الجسد الرسمي.
– أحد أنماط عمل الأيديولوجيا هو اصطناع الأعداء وتضخيم المظلومية، فالجماعة لا تعيش إلا في ظل التوتر، وكلما زاد الشرخ، زادت فرص الهيمنة، ولهذا أنتج الإسلاميون سردية متماسكة عنوانها المظلومية التاريخية، رُوّجت لها عبر التعليم والمنابر والإعلام الرسمي، وكل نقد اعتُبر خيانة، وكل معارض جُعل عميلاً، وكل اختلاف عُدّ انحرافًا عن الشريعة، بهذه المعادلات المصطنعة تأسست هندسة استقطاب شامل قسّمت المجتمع إلى ثنائيات قاتلة، مثل طاغوت مقابل مجاهد، علماني مقابل إسلامي، والدولة مقابل الأمة.
– غير أن ما لم يدركه الإسلامويون هو أن بناء كيان ظلي لا يمكن التحكّم فيه إلى الأبد، فالكيانات التي أنشئت كأداة قمع طارئة سرعان ما تحوّلت إلى قوات خارجة عن السيطرة، جماعة لا تحكمها عقيدة بل تحكمها المصالح، لكنها وُلدت في رحم النظام الأيديولوجي نفسه، الآن ما نشهده من تخلقات لم ينشأ كعدو خارجي، بل كمنتج داخلي للهندسة العكسية للدولة، حين تُنتج الدولة عدوّها من أحشائها.
– النموذج السوداني يقدّم درسًا مرعبًا: حين تفكك الأيديولوجيا المجتمع لصالح تركيب واجهاتها، تصبح الدولة مجرد وسيط بين التنظيم والموارد، وما إن تتوقف الدولة عن أداء هذا الدور، فإن الجماعة تستدعي أدواتها الظلية، لتتفكك الدولة وتبقى الواجهة قائمة.
– لذلك تحوّلت الدولة السودانية من كيان حكم إلى جهاز شرعي للتنظيم، لم تُعامل كأداة سيادة وطنية، بل كرافعة استثمار عقائدي، حيث لم تعد الدولة تُنتج قوانين، بل شرعية، ولم تعد تنفّذ سياسات بل تحرس الولاء، وهكذا نشأت “سيادة التنظيم”، حيث بات يُمارس الحكم باسم المشروع العقائدي، لا باسم الشعب، ويسود قادة التنظيم حتى على قادة المؤسسات السيادية وكل قيادي في الدولة له مرجعية تنظيمية ياتمر بأمرها وقد تكون من قيادات الظلال التي لا تكاد تسمع لهم همسًا ولا ركزًا ولا ذكرًا.
– منذ انقلاب الترابي في 1989م لم تُنتج حكومة تمثل الأمة، بل واجهة تُحركها قيادة تنظيمية من خلف الستار، الحكومة أدارت العلاقات الخارجية والبيروقراطية، بينما التنظيم أمسك بالسياسات، راقب الولاءات، وضبط التمويل، فكانت الدولة سطحًا، بينما كان التنظيم هو نظام التشغيل الحقيقي الخفي.
– تم إعادة تفكيك المؤسسات لصالح هذا النظام الخفي، حيث تم إعادة هيكلة الجيش وفق الولاء، وتحويل جهاز الأمن إلى ذراع رقابي داخلي، وتنصيب قضاة موالين استُخدموا في قمع الخصوم السياسيين، بينما أُعيدت كتابة المناهج التعليمية لتحوّل الطلاب من مواطنين إلى مبايعين، وتم استبدال النظام الأهلي الموروث بنظام جديد قدم المحاسيب وجرد أهل السلطة التقليدية من سلطانهم سواء كان ذلك في الادارات الأهلية أو البيوتات الصوفية أو نحوه.
– في هذا النموذج اختُطفت الشرعية نفسها، لم تعد تُستمد من الانتخابات أو المواطنة، بل من النقاء العقائدي، فكل من هو خارج التنظيم هو خارج الشرعية، حتى لو انتُخب أو نال تفويضًا شعبيًا، وهكذا تحوّلت الدولة إلى آلة طباعة للشرعية التنظيمية، تختم بها أوراقها بختم الوطن.
– في مرحلة ما بعد التفكيك، لم تعد الجماعات بحاجة للدولة كواجهة، بل بدأت تنتج بدائلها بالكامل، كما هو الحال مع الكيانات الأمنية والعسكرية التي تحوّلت من وحدات صغيرة إلى كيانات هجينة، أمنية واقتصادية وقبلية فاق عددها الـ ٤٠ كيان، تعمل بمنطق السوق، لا بمنطق الفكرة، ولد من رحم السلطة لكنه استقل او سيستقل عنها حين ينهار المركز.
– وعندما انهارت الخرطوم، لم ينشأ بديل مركزي، بل خريطة من الأسواق السوداء، حيث تحكم الميليشيات المحلية مناطق كاملة، تتخذ القرارات من المعسكرات، وتُدار الموارد من مناجم مهربة لا من وزارة مالية، وتنتهج تجارة المخدرات والسلاح والممنوعات تحت ظلال البنادق؛ وهذا ليس فراغًا بل نظام موازٍ يحكمه أمراء الحرب وتجار الذهب وسماسرة النفوذ.
– كل إقليم بدأ في تشكيل سلطته الخاصة، دارفور تحت سيادة دعم سريع، الشرق في فوضى قبلية ممتزجة بتدخل خارجي، الشمال والجزيرة في قبضة الجيش دون شرعية مجتمعية، والشمال تحت رحمة مليشيات جديدة وفادة عصابات، في كل جيب تولّدت سلطة محلية تحمل راية وعلمًا واقتصادًا خاصًا، وتحاول نفي كل ما عداها، وهذا هو شكل الدولة المنتهية فعليًا، دون إعلان.
– في هذا المشهد لم تعد الجماعات بحاجة إلى اعتراف من الدولة، بل باتت تُنتج شرعيتها ونظامها الخاص، فدخل السودان مرحلة ما بعد السيادة، حيث لا دولة ولا وطن، بل مشروعات سلطة مبعثرة تبحث عن معنى أو غنيمة.
– إن الحديث عن استعادة السودان لا يمكن أن يُؤخذ بنفس خطابات المصالحة والمرحلة الانتقالية، فالسودان لم يعد كيانًا موحدًا، بل ساحة مشروخة بهويات متضادة وخرائط نفوذ متعددة، والاستعادة لا تعني الرجوع بل تعني تفكيك ما فُكك، وإعادة تركيبه بمنطق جديد.
– الخطوة الأولى ليست السلام بل وقف التآكل، تجميد الدمار عبر إنشاء مناطق عزل مجتمعي تُدار محليًا، ضبط السلاح والموارد برقابة دولية مشروطة، فالدولة تُرمم جزءًا جزءًا، لا تُستعاد دفعة واحدة.
– المرحلة التالية تتطلب سلطة إدارية مؤقتة لا تمثل أحدًا، بل تُدير الباقي، هيئة محلية من شخصيات محايدة وخبراء دوليين، لا تحكم ولا تشرعن، بل تنقذ، تُعيد تشغيل ما تبقى من خدمات وتدفقات دعم، وهذه لن يفلح الترقيع الوزاري الجديد في إحداثها.
– لا يمكن استعادة الدولة دون تفكيك التمكين، لا عبر حرب دينية بل بتفكيك الاقتصاد الموازي، نزع الشركات المملوكة للجماعة، وكتابة عقد وطني جديد يُعيد تعريف الشرعية خارج العقيدة والسلاح، الشرعية يجب أن تُنتزع من قبضة البنادق والمنابر معًا.
– السودان الجديد لا يمكن أن يعود مركزية واحدة، بل يجب أن يكون شبكة سيادات محلية ترتبط بعقد سياسي واجتماعي واضح، يعترف بالتعدد، ويمكّن المجتمعات من تقرير مصيرها دون اللجوء إلى السلاح، هذه هي الدولة الممكنة بعد التفكك، وليست مجرد وهم جمهوري مكرر.
● ختامًا: إن الطريق إلى إنقاذ السودان لا يمر عبر المؤسسات القديمة لنظام “الانقاذ” ولا النخب المجربة، بل بابتكار أدوات جديدة، خارج الصندوق الأيديولوجي والتاريخي، تبدأ من الهامش لا المركز، من القرى لا الخرطوم، من الواقع لا من الخيال. إذا أُريد للسودان أن يعيش، فلا بد أن يولد من جديد، لا أن يعود كما كان.
orwaalsadig@gmail.com