اعلان ماس فيتالس

الأمومة حين لا تكون خياراً

سهام صالح

صحفية سودانية

في مقطع قصير انتشر على تيك توك، يظهر طفل صغير جالس في فناء ترابي بأحد أحياء ود مدني. ينظر إلى الفراغ ويدندن أغنية شجية، يتحدث معه أحدهم ، يطلب منه الغناء ويساله من أين جاء ؟، وبملامح مشرّدة وعينين تحملان وجعًا يفوق عمره يبدأ  الصغير بالغناء ويجيب على الاسئلة .

تقول المنشورات التي رافقت الفيديو إن الطفل فُقد والداه في الخرطوم أثناء الحرب، وإنه يعيش منذ شهور في كنف امرأة لا تمت له بصلة قرابة.

هذا الطفل هو وجه لظاهرة سودانية صامتة، تتسع يومًا بعد يوم مع استمرار الحرب وتفكك الأسر: ظاهرة “الأمهات البديلات”. نساء يحتضن أطفالًا ليسوا أبناءهن، لا عن طريق الولادة ولا من خلال الحضانة الرسمية، بل عبر رابطة أكثر بدائية وإنسانية: غريزة الحماية وسط الفوضى.

ومع انهيار أنظمة الرعاية الأسرية، وتشتت العائلات، ونزوح الملايين من مناطق النزاع، وجدت كثير من النساء أنفسهن مضطرات للعب دور الأم لأطفال من أقربائهن أو جيرانهن أو حتى لأبناء غرباء علقوا في طريق الهرب. أحيانًا يصل الأطفال إليهن بعد فقدان ذويهم، وأحيانًا يُتركون في عهدتهن على أمل العودة. وغالبًا لا يعود أحد.

تقوم الأمهات البديلات بأدوار معقدة دون تدريب، دون حماية، ودون اعتراف. لا تتوفر لهن أوراق ثبوتية ، ولا دعم نفسي، ولا مساعدات مالية تُراعي مسؤولياتهن الجديدة. إنهن يتحركن داخل فراغ قانوني كامل، وخطاب إنساني مبتور لا يتسع لتعقيد قصتهن.

ما يجمع هؤلاء النساء هو أنهن يُرَبين أبناء الحرب بصمت. في مجتمعات تعتبر الرعاية الأنثوية أمرًا “طبيعيًا” لا يستدعي التقدير، تتحول الأمومة إلى عبء خفي تُحمّل فيه النساء مسؤوليات غير مرئية، ويُفترض أن يكنّ دومًا جاهزات للعطاء، حتى لو لم يكن لديهن ما يقدمنه.

ليست الأمومة هنا لحظة اختيار، بل ظرف طارئ. إنها مسؤولية من النوع الذي يُلقى في الطريق وتلتقطه يد امرأة لم يكن بوسعها أن تلتفت عنه. في معسكرات النزوح، وبين بيوت القش، وفي الأحياء العشوائية على أطراف المدن، يمكن أن ترى أمًا بديلة تهيئ وجبة لطفلين، وتغسل ثياب ثالث، وتطرد عن الرابعة ذكرى القصف، دون أن يفكر أحد: من هذه المرأة؟ ومن هم هؤلاء الأطفال؟

قد تكون جدة، أو خالة، أو فتاة صغيرة تُركت فجأة في موقع أمومة. لا يهم التصنيف، فالواقع واحد: نساء يربين جيلاً بلا سند..

الطفل في هذه المعادلة ليس فقط محتاجًا إلى مأوى، بل إلى هوية جديدة تُشعره بالانتماء، وهوية الأم الجديدة لا تعترف بها الدولة، ولا يقرّها المجتمع إلا على استحياء. هذا التوتر يولّد صمتًا كثيفًا، تتقاسمه النساء والأطفال معًا ممثلا في

صمت  اجتماعي حول الرعاية المؤقتة التي تطول وصمت داخلي حول حزن لا يُقال، لكنه يُعاش يومًا بعد يوم..

ورغم ذلك، هناك مقاومة تحدث. إنها مقاومة ناعمة، خافتة، لكنها عميقة. حين تصر امرأة على تعليم طفل ليس من صلبها، أو تحمله إلى العيادة، أو تشتري له ما يحتاج، فإنها بذلك تعيد بناء شكل من أشكال الوطن. وطن صغير جدًا، لكنه كافٍ لطفل واحد على الأقل.

هؤلاءالنساء لا يحملن لافتات، ولا يطالبن باعتراف، لكن الواقع يقول إنهن يقمن بأعظم ما يمكن تقديمه في زمن الخراب: إبقاء الطفولة على قيد الحياة

هن الحبل الأخير في قاع البئر. اليد التي لا تُسأل من أنتِ، بل تمسك الطفل وتقول: “ابقَ حيًّا… وسأكون أنا أمك”

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.