
نجوت بأعجوبة
بقلم: مصطفى خالد
خلال الأيام الماضية كنت أعيش تجربةً جديدة، خاصةً ومغايرة، إذ انشغلت بقراءة مخطوطة الترجمة الإنجليزية لروايتي الأخيرة “هاها كح كح نجوت بأعجوبة” والتي أنجزها المترجم الأمريكي القدير ويليام ماينارد هتشنز، مترجم الثلاثية العظيمة لنجيب محفوظ.
كان أمرًا غريبًا أن أقرأ نفسي، في رحلةٍ داخل النص من جديد، لكن هذه المرة بعينٍ أخرى، وبصوتٍ آخر لا يقل دهشة. شعرت كأن العمل يُروى لي لا مني، وأنه، رغم عبوره إلى لغة أخرى، ما زال يحمل نبضه الأول، وإن جاء ذلك النبض بنَفَسٍ مختلف وإيقاع مغاير.
الترجمة ليست جسرًا بين لغتين وحسب، بل مساحةٌ للتأمل والتأويل، فيها ما يُدهش وما يُثير وما يُضيء زوايا لم أنتبه لها حين كنت أرعى النَص في مهده الأول. خرجتُ من هذه التجربة بشعور مزدوج: فرحٌ لأن العمل بدأ يشق طريقه نحو فئةٍ جديدة من القراء، وتأملٌ في كيفية تحوّله من لغة إلى أخرى دون أن يفقد كثيرًا من روحه.
بعدما حدث في بابل أيامَ بناء البرج العظيم، أعني ذاك العصف الرباني الذي حلَّ بألسنة البشر وفرّق بينهم، شهد تاريخ الترجمة محطات حاسمة أثّرت في تطوّر الحضارات وتبادل المعارف بين الشعوب. ففي العصر العباسي، ازدهرت حركة الترجمة في بيت الحكمة ببغداد، حيث نقل علماء مثل حنين بن إسحاق وثابت بن قرة علوم الفلسفة والطب والفلك من اليونانية والفارسية إلى العربية، مما أسّس لنهضة علمية واسعة في العالم الإسلامي. وفي الأندلس، أسهمت مدرسة طليطلة للترجمة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في ترجمة المعارف العربية واليونانية إلى اللاتينية، بجهود مترجمين مثل جيراردو الكريموني، وهو ما مهّد للنهضة الأوروبية. لاحقًا، برزت أعمال ترجمة دينية مؤثرة، مثل ترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس إلى الألمانية، التي أرست قواعد اللغة الألمانية الحديثة، وترجمة King James Version إلى الإنجليزية، التي أثّرت عميقًا في الأدب الإنجليزي. أما في الجانب الأدبي، فقد أدخل أنطوان غالان الثقافة العربية إلى أوروبا من خلال ترجمته لــ”ألف ليلة وليلة” إلى الفرنسية في القرن الثامن عشر. وتستمر هذه المسيرة في العصر الحديث من خلال مشاريع كبرى مثل مبادرة “كلمة” في الإمارات، التي تعيد وصل الثقافة العربية بالنتاج الفكري العالمي عبر الترجمة.
ربما كانت هذه هي المعجزة المبهرة في الترجمة : أن ننجو بأعجوبة، مرةً أخرى.
لذلك، أجدني أعاود اكتشاف الأدب، بما يتيحه من مساحات للدهشة والمجازفة والتلاقي، لم يخطر لي مذ بدأتُ الكتابة بصورةٍ جادة أن تصل الترجمة إلى مشروعي السردي في هذه المرحلة، ولم يكن ضمن حساباتي القريبة أن يكون أول مترجمٍ لي هو ذاته من قدّم للعالَم ثلاثية نجيب محفوظ، أيقونتي الأدبية، من خلال ترجمتها إلى الإنجليزيّة. كما أنه ترجم أعمالًا لرموزٍ عربية عملاقة كالجاحظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف ونوال السعداوي وإبراهيم الكوني.
تحدوني سعادة فياضة بهذه الترجمة الذهبيّة التي تشكّل مفصلاً مهمًا في مسيرتي الأدبية المتواضعة وتضيف إلى ما كتبت الكثير والكثير.
أخيرًا، شكرًا “دار عرب” Dararabuk العمانيّة التي فتحت هذه الطاقة الكبيرة على الأدب السوداني الشبابي، وشكرًا لكل من أ. ناصر البدري Nasser AlBadri مؤسسها و علي المجيني Ali Al Mujaini مديرها، وهما يخلقان لنا كل هذا البهاء الأنيق.
تصدر الرواية في لندن عن “دار عرب للترجمة والنشر” بنسختيها العربية والإنجليزية في ٢٠٢٦م.