
خطاب الكراهية يؤسس لانقسام مجتمعي وجغرافي في السودان
الغد السوداني_متابعات
أفرزت الحرب واقعاً اجتماعياً متفجراً بتصاعد مخيف لخطاب الكراهية والعنصرية طاول عصب النسيج الاجتماعي في السودان. وبدأ خطاب العنف اللفظي يتحول تدرجاً إلى واقع عنف مباشر زعزع الأمن الاجتماعي وعصف بتماسك نسيج المجتمع بتحفيز النعرات الجهوية والعصبيات الإثنية، وباتت مكونات المجتمع السوداني وكأنها على موعد قريب مع موجة منتظرة من العنف المجتمعي. فكيف يتخطى السودانيون هذا الإرث الثقيل للحرب بعدما بلغ خطاب الكراهية أقصى حدوده، في ظل مخاوف الانتقال إلى مرحلة تالية عنوانها العنف الجهوي والعرقي الممهد للحرب الأهلية؟
أطراف ودوافع
وحذر باحثون ومتخصصون في بناء السلام والنزاعات والتعايش السلمي، من أن طول أمد الحرب في طريقه إلى إفراز نمط جديد من العلاقات الاجتماعية تقوم على أساس توفير الحماية الاجتماعية عبر الولاء والتسلح الجهوي والعرقي، مما سيفاقم من الشروخ الاجتماعية ويصعب من العودة إلى التعايش والسلم الاجتماعي مرة أخرى ما بعد الحرب.
يرى المتخصصون أن أخطر ما انطوت عليه حرب السودان انحرافها نحو نمط الحروب المتعددة الأطراف والدوافع، بتأجيج المشاعر العنصرية والجهوية والعرقية كمحفز يستخدمه الكل ضد الآخر، بحيث لم يعد التطور النوعي في خطاب الكراهية يقتصر على الصعيد الاجتماعي أو صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وحسب، لكنه انعكس أيضاً على الخطاب السياسي والإعلامي العام بصورة تهدد مستقبل وحدة البلاد، مما يعني تورط كل الفرقاء في الدفع بالبلاد إلى حرب مجتمعات ذات منطلقات جهوية وإثنية.
هدم الأساس
في السياق، توضح أستاذة علم الاجتماع، سعاد الزين محمد نور، أن هذه الحرب كشفت عن عنف كامن غير مسبوق فعلاً، ومن ثم عمقت أكثر الشروخ والتصدعات وهدمت أساس السلام الاجتماعي الذي كان السودانيون يكافحون جاهدين للعمل على ترسيخه. لكن الحرب رفعت سقف المطالب على رغم التعافي التي يجب أن تكون من أولويات ترتيبات وقف الحرب.
دعت محمد نور المؤسسات الإعلامية إلى أن تتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والوطنية كاملة، وأن تنهض بدورها في ترسيخ الوعي العام لا تأجيجه حرصاً على استقرار المجتمع وسلامة نسيجه الداخلي، بعدما باتت بعض الأطروحات الإعلامية تمثل مصدر قلق للرأي العام وتغذي بيئة الانقسام والتشويش. وتابعت “مما لا شك فيه أن الحرب أسهمت في تفتيت النسيج الاجتماعي وتوسيع الشروخ الإثنية والجهوية، غير أن التجييش على أسس عرقية وجهوية واستخدام الخطاب الإعلامي لتعبئة المؤيدين عبر نداءات تعتمد على الهويات الإثنية والجهوية، هو أخطر ما عمّق خطاب الكراهية بصورة غير مسبوقة وأضفى شرعية ضمنية على الكراهية والعنف”.
انقسام القلب
لم تكن البنادق وحدها هي التي تقف خلف الحرب وفق محمد نور، فهناك الآن صراع كبير اخترق قلب المجتمع بالانقسام الاجتماعي والسياسي المزدوج والحاد بين كتل جغرافية في الشمال والوسط والشرق وكتل سكانية ومجتمعية أخرى جنوب وغرب البلاد في جبال النوبة وكردفان ودارفور.
لفتت الأكاديمية إلى أن ذلك الانقسام المزدوج ترتب عليه توصيف قبائل ومكونات سكانية كاملة كقتلة غزاة ولصوص… إلخ، فضلاً عن اتهام مجتمعات بأكملها بالتواطؤ والخيانة، مما أدى إلى تعميق نزعات الرغبة في الانتقام المجتمعي الذي يغذيه باستمرار على وقع خطاب الكراهية بصورة تزيد من احتمال تحول الحرب إلى أهلية شاملة ومفتوحة متعددة الأطراف.
حوار الرصاص
تعتقد محمد نور أن التصاعد المزعج والمخيف لخطاب الكراهية لم يعد يقتصر على التحريض والتراشق الخشن بالألفاظ العنصرية أو التهديد بالإقصاء، لكنه تحول إلى حوار بالرصاص، فشاهدنا مقاطع للتصفيات الجسدية البشعة، مما يجعل من المستحيل العودة من جديد إلى نمط التعايش السلمي الذي كان سائداً قبل الحرب.
تستطرد الأكاديمية “لم يعد خطاب الكراهية في السودان مجرد عرض جانبي لتشنجات الحرب المجتمعية وطول أمدها، لكنه تحول إلى أحد الأدوات الرئيسة في تأجيجها واستمرارها، لذلك فإن محاربته أصبحت واجباً مهماً يتطلب جهداً تضامنياً شاملاً ومتكاملاً، ومن دون ذلك لن يكون ميسوراً بناء سودان ما بعد الحرب على أسس السلام والتعايش.
الخطر الأكبر
على نحو متصل يرى الناشط الحقوقي، محمود أبو طالب، أن السودانيين يواجهون الآن خطراً حقيقياً نتيجة التفشي الواسع والمخيف لخطاب الكراهية والحض على العنف الجهوي والإثني نتيجة تمدد الحرب جغرافياً بطرق عدة، مما يضع البلاد أمام تحديات كبيرة أقلها الانجراف نحو حرب أهلية أطول من الحرب الراهنة، تؤسس عملياً للانقسام الجغرافي للسودان.
يحمل أبو طالب قيادات مجتمعية ودينية وزعماء وشيوخ قبائل مسؤولية احتواء تصاعد خطاب الكراهية وكبح جماح التحريض العنصري عبر نفوذهم الاجتماعي ومجالسهم الأهلية، بخاصة في الحواضن المجتمعية بالمناطق والأقاليم المتأثرة بالنزاعات والشديدة الحساسية للخطاب الإثني.
الركود الرسمي
يردف “على رغم وجود نصوص في القانون السوداني تجرم خطاب الكراهية والتحريض على العنف بكل أشكاله، فإنه يلاحظ أن تطبيقها ظل محدوداً على الدوام ويزداد ضعفاً في ظل التشتت والهشاشة التي تعيشها مؤسسات الدولة حالياً بسبب الحرب نفسها”.
كذلك ينتقد الحقوقي ركود الدور الرسمي في مواجهة تفشي ثقافة العنف والكراهية، مطالباً المؤسسات الرسمية المتخصصة بأن الأوان قد آن لتحركها الجاد، ليس فقط بتعديل وتفعيل القوانين، لكن أيضاً برصد ومراقبة اتجاهات خطاب الكراهية والعنف ودراسة ما وراء ظاهرة هذا التفشي الخطر الذي يؤجج النزاعات والصراعات والتمييز العنصري.
تفكك وتمزق
على الصعيد ذاته، يرى الباحث في التعايش وسط المجتمعات المحلية، بدرالدين حسين، أن “الآثار النفسية والاجتماعية العميقة لبشاعة الانتهاكات خلال هذه الحرب، ستظل تسكن ذاكرة المجتمع السوداني على المدى البعيد، بكل مخزونها من الكراهية ورغبة الانتقام والثأر تجاه العرقيات التي ينحدر منها معظم جنود ’الدعم السريع‘ بصورة تجعل التعايش معها صعباً إن لم يكن مستحيلاً في الوجدان العام”.
يشير حسين إلى أن آثار خطاب الكراهية بدأت تظهر بالفعل على المجتمع في بوادر تفكك وتمزق حقيقي في النسيج الاجتماعي الموروث تاريخياً، إذ تعمقت الانقسامات العرقية والقبلية والعداء الجهوي بصورة مؤسفة بين السكان المحليين، مما ينذر ببروز أجيال قادمة أكثر عرضة لتبني تلك التوجهات العدوانية مستقبلاً.
يرى الباحث أنه لا بد من تنشيط عاجل لمبادرات المجتمع المدني في مواجهة هذه الظاهرة المستفحلة عبر المنظمات الشبابية المحلية ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، وتنظيم ورش توعوية تحض على بناء السلام والتعايش وتعمل على نشر ثقافة الحوار بدلاً من العنف والتحريض، مشيداً بحملات الناشطين والإعلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي في مواجهة رسائل مضادة للكراهية ومحتوى يدعو إلى الوحدة والسلام الاجتماعي.
الأكثر تعقيداً
من جانبه، يرى المتخصص في فض النزاعات، النزير عبدالغفار، أن الواقع يشير إلى أن السودان يعيش الآن أكثر مراحل تاريخه تعقيداً في خلخلة نسيجه الاجتماعي، بدءًا من ملايين الأسر التي تشتتت باللجوء والنزوح القسري مروراً بالأجيال الضائعة بين اليأس والإحباط وسط مستقبل قاتم ومظلم وصولاً إلى الاقتصاد الذي يترنح والمؤسسات التي تنهار.
ويشير عبدالغفار إلى أن الشروخ الاجتماعية التي تقف وراءها حملات التعبئة والتجييش القبلي والجهوي والتصدعات السياسية أصبحت بالغة الخطورة على وحدة البلاد، وأصبحت معها قضية التصالح الاجتماعي أكثر إلحاحاً منها بإعادة ترميم الشروخ العميقة التي ضربت شبكة النسيج الاجتماعي، أولوية أكثر إلحاحاً من المصالحة السياسية.
أدوار سالبة
يردف “أسهم التجييش القبلي والجهوي في خلق بيئة خصبة لاستمرار القتال وتغذية احتمالات الحرب الأهلية تحت ذرائع إثنية أو دينية”، محملاً الزعماء القبليين وقادة الإدارات الأهلية بخاصة في بعض ولايات دارفور، مسؤولية استخدام التعبئة الإثنية في عمليات التجنيد العرقي وسط شباب مكونات اجتماعية بعينها لمصلحة “الدعم السريع”، مما أسهم في تأجيج النعرات القبلية والعنصرية.
يعتقد المتخصص في النزاعات أن السودان بعد الحرب بحاجة إلى ثورة مجتمعية شاملة ومصالحات واسعة، وفق خطط ووسائل فعالة وقادرة على تحريك المجتمع من جديد نحو فكرة القبول بالآخر، لأنه من دون ذلك لا يمكن التفكير في قيام دولة ديمقراطية تعترف بالتنوع وتطمح إلى الاستقرار والتنمية المستدامة.
مناهضة حزبية
إزاء التصاعد المقلق لخطاب الكراهية، أصدرت أحزاب “الأمة القومي” و”المؤتمر السوداني” و”التجمع الاتحادي” و”البعث العربي الاشتراكي” (الأصل)، بياناً مشتركاً حذرت فيه من التداعيات الكارثية التي طاولت النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ووضعت وحدة البلاد واستمرارية الدولة وتماسك المجتمع أمام تهديد وجودي غير مسبوق.
أشار البيان إلى تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية والجهوية وانتشار الميليشيات وتفكك مؤسسات الدولة، مطالباً كل القوى السياسية الوطنية التصدي لمسؤوليتها التاريخية في مواجهة هذه المحنة التي تعيشها البلاد ومواطنوها والتحديات المصيرية التي تواجهها، وتراجع الولاء الوطني لمصلحة الانتماءات الضيقة.
تفتيت وتفكيك
لفت البيان إلى أن “توظيف الدعاية الحربية لإجهاض المشروع الوطني لثورة ديسمبر (كانون الأول) تزامن مع استقطاب سياسي حاد وانسداد أفق الحل السلمي واصطفاف عسكري، وصنع مزيداً من الميليشيات لتعزيز ذلك الاصطفاف وعسكرة الحياة في البلاد وتضييق الحيز المدني”.
اعتبرت الأحزاب الأربعة أن وقف الحرب والتصدي المشترك لمخططات تفتيت وتفكيك نسيج البلاد الاجتماعي، ومحاربة خطاب الكراهية والتحشيد على الأساس الإثني والجهوي من قبل أطراف الحرب، أولوية قصوى للحفاظ على وحدة شعب وأرض البلاد.
أخطر الموروثات
على الصعيد نفسه، قالت المتخصصة الاجتماعية، ازدهار عبود إنه “وعلى رغم أن خطاب الكراهية والعنصرية له جذوره وتاريخه في السودان، فإن تصاعد حدته وارتفاع وتيرته خلال الحرب الحالية جعلتا منه أحد أخطر موروثات الحرب وأكبر مهددات وحدة البلاد وتماسكها، بفعل الانقسام المجتمعي وتحطم قيم التعايش السلمي التي كانت تمثل أهم ممسكات للوحدة الوطنية”.
حذرت عبود من أن تصاعد ظاهرة الكراهية والتنفير ضد مكونات اجتماعية في غرب البلاد والتهديد بمقاطعتها اجتماعياً، من أكبر معضلات المجتمع السوداني التي أفرزتها الحرب.
تدمير القواسم
أشارت المتخصصة إلى أن انتقال خطاب الكراهية من مرحلة الأقوال إلى الأفعال بدأ يدمر فعلياً كل القواسم والمشتركات الاجتماعية، ويهدد بهدم أسس التعايش وانهيار منظومة القيم المجتمعية والسلام الاجتماعي.
واندلعت شرارة الحرب الحالية قبل أكثر من عامين من داخل العاصمة السودانية بولاية الخرطوم، وسرعان ما تمددت نيرانها إلى إقليم دارفور وولايتي الجزيرة وسنار وسط البلاد، ثم غرب وجنوب كردفان وتخوم إقليم النيل الأزرق ثم ولاية نهر النيل، وتمددت بوصول “الدعم السريع” إلى المثلث الحدودي بين السودان مصر وليبيا ومنطقة كرب التوم إلى داخل حدود الولاية الشمالية، مهددة بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة وشاملة قد تزعزع استقرار المنطقة بأكملها، “نقلاً عن صحيفة اندبندنت عربية”.