`بلادنا من عار الثلاثين من يونيو إلى وعد الحرية الآتي`
بقلم : عروة الصادق
نستذكر في هذه الأيام من كل عام الكابوس والحلم؛ نظام الوغد ورحلة الوعد ، اليوم يستعيد السودانيون ذكرى الثالثين من يونيو 1989م، لا كحدث عابر في سجل السياسة، بل كجُرح مفتوح في جسد وطنهم، وكسلسلة من المآسي الممتدة التي أطلقتها جماعة حركية أجهضت مسارًا ديمقراطيًا واعدًا، وانقضّت على السلطة بقوة السلاح، لتؤسس لحكم استبدادي قمعي استمر ثلاثين عامًا، وأنهك مؤسسات الدولة، وفتّت نسيجها الاجتماعي، وكرّس ثقافة القهر والفساد والمحسوبية.
لكن هذا العار الوطني لم يكن نهاية الرواية، بل شكّل نقطة انطلاق لمقاومة طويلة المدى، امتدت عبر أجيال وتراكمت حلقاتها وتراكبت موجاتها واحدة تلو أخرى، وتنوّعت أشكالها من المذكرات والمظاهرات إلى العصيان المدني والهبات والثورة الشعبية، حتى كان فجر ديسمبر 2018م، حين خرجت جموع الشعب السوداني في كل بقاعه، تهتف لا لحكومة أو حزب، بل للكرامة والحرية والسلام والعدالة، وهذه الثورة لم تكن انفعالًا آنيًا، بل كانت فعلًا واعيًا متجذرًا في الذاكرة الجمعية، يطلب الحساب عن كل عام سُلب فيه الوطن من أهله، ويطلب استرداد الحلم الكبير الذي داس عليه الانقلابيون يومًا.
وفي من استعادة الثورة إلى محاولة الإجهاز عليها مجددًا سألت دماء ونحرت أرواح وامتهنت كرامة، إلى أن جاء أبريل 2019م، فسقط رأس النظام، وسقطت معه أوهام “التمكين الأبدي”، لكن الدولة العميقة التي صنعتها ثلاثون سنة من التمكين لم تَسقط دفعة واحدة، بل احتفظت بمراكز نفوذها داخل مؤسسات الأمن والجيش والقضاء والخدمة المدنية، وقد كان ذلك أحد أبرز أسباب هشاشة المرحلة الانتقالية، حين تواطأ بعض من وُكل إليهم حماية الثورة على إضعافها، وتعمدوا تعطيل مسار الإصلاح، حتى كانت لحظة الطعنة في الظهر “الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021م”، الذي أجهض الشراكة الهشة، وأعاد السودان إلى مربع الحكم الفردي القسري، وسط تنديد شعبي واسع ومقاومة شرسة ما زالت مستمرة حتى اليوم.
ذلك الانقلاب لم يكن فقط جريمة سياسية، بل كان خيانة أخلاقية وتاريخية لدماء الشهداء الذين كتبوا فجر أبريل بدمهم، وللملايين الذين خرجوا في 30 يونيو 2019م ليؤكدوا أن السودان لن يعود للقبضة الحديدية، كان الانقلاب محاولة إحياء لجثة سياسية اسمها الاستبداد، لكنها لم تُدفن بعد، يحاول التنظيم المحلول وعناصره وسدنة الانقلاب وأبواق الحرب بعث الروح فيها بدماء الأبراء.
إن الحرب التي انفجرت في 2023م كانت تتويجًا لانهيار مشروع الدولة؛ لتكشف النهاية المنطقية لهذا المسار الشاذ ةالمنحرف، ولقد تحوّل الصراع على السلطة بين المكوّن العسكري – الجيش والدعم السريع وحلافئهما – إلى كارثة إنسانية حقيقية، جرّت البلاد إلى دوامة عنف غير مسبوقة، وفتحت الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية، واستباحت الجغرافيا والسيادة، وأدّت إلى انهيار شبه كامل للمؤسسات، وإلى تشريد الملايين وقتل عشرات الآلاف، في مأساة قلّ نظيرها في تاريخ السودان الحديث.
إن تلك الحرب لم تكن معزولة عن جذور الانقلاب، بل كانت امتدادًا له، لأن الانقلابات العسكرية لا تنتج استقرارًا، بل تولّد الفراغ والفوضى، وتُضعف الدولة حتى تتغوّل المليشيات وتُستباح العاصمة وتُقصف الأحياء، ولذلك فإن تحميل الانقلابيين مسؤولية هذه الحرب ليس خطابًا سياسيًا، بل تشخيص واقعي لمعنى أن تُدار دولة عظيمة كالسودان خارج إطار المؤسسات الشرعية.
ولكن جذوة الثورة لم تنطفئ أو تخبو ورغم كل هذا الخراب، فإن روح الثورة لم تمت أو تصحى سطورها، لأن الذين خرجوا في 2018م، وما زالوا يخرجون في مواكب الذكرى والتحدي، ليسوا جموعًا عاطفية أو ضحايا للأمل، بل حملة مشروع قومي جامع يُدرك أن استعادة الوطن لا تتم عبر الأماني، بل بالتضحيات والمعرفة والتنظيم.
نعم! لقد غُسل عار الثلاثين من يونيو 1989م بدماء الشهداء الذين سقطوا في 2019م، وعيون أمهاتهم ما زالت تقاوم النسيان، وتربط الأمل بالعدل والقصاص؛ و دإن الذين قاوموا اعتصام القيادة ثم هتفوا ضد الانقلاب ثم نازحوا تحت القصف، لم يفعلوا ذلك لأنهم يُحبون المواجهة، بل لأنهم يُحبّون وطنهم.
إن واجبنا الوطني والأخلاقي ينبغي أن يكون حاسماً، لأن الدفاع عن الثورة ليس خيارًا سياسيًا، بل واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا، ومن يسكت عن الانقلاب يساهم في شرعنته، ومن يتهاون في مقاومة الحرب يطيل أمدها، وإن الثورة ليست لحظة، بل مسار طويل يحتاج إلى الذاكرة والتنظيم والصبر.
ونحن اليوم نواجه لحظة فارقة تتطلب أن نتمسك بالجذور الأولى لثورة ديسمبر: لأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع، والحقوق لا تعطى بل تقتلع، وهذا الجيش ينبغي أن يكون في الثكنات بعد أن تعاد هيكلته وتفكك عناصره العطنة الفاسدة المقيدة بأيدولوجيا واهمة تريد الهيمنة على قراره، وأن السلطة لابد أن تكون مدنية، تُبنى على التوافق والعدالة، لا على المحاصصة والتمكين، وألا سلام دون عدالة، ولا استقرار دون محاسبة، ولا وطن دون مواطن.
ختامً: لنمضي نحو أفق جديد ونجتاز جدر السجون التي تريد أن تحبسنا فيها طغمة الإنقاذ المتناسلة في انقلاب أكتوبر 2021م ثم حرب إبريل 2025م ورغم قسوة اللحظة، فإن التاريخ في صف الشعوب، لا في صف من ينقلبون على إرادتها، وسينتصر السودان وأهله، لا لأنه الأقوى عسكريًا، بل لأنه يمتلك شعبًا لم يهزم، جرب السجون والنفي والرصاص والظلم والفظائع والانتهاكات، لكنه لم يُسلّم أو يستسلم.
إن واجب النخب الوطنية اليوم، والأحزاب، والمجتمع المدني، والإدارات الأهلية والنساء والشباب، هو أن يُعيدوا توحيد الجبهة الوطنية، خلف مشروع انتقالي جديد، يعيد الاعتبار لفكرة السودان المدني الديمقراطي، ويعيد ترتيب الأولويات، ويُعلن بوضوح أن الحرب والديكتاتورية كلاهما مشروع موت، بينما الثورة وحدها مشروع حياة.
إننا سنواصل المقاومة، لا لنستبدل طاغية بآخر، بل لنُعيد للسودان ما يستحقه: السلام، والحرية، والعدالة، والدولة المختطفة؛ وإذا كانت الحرب قد أطالت المسافة، فإن الشعوب، وإن تأخرت، لا تُهزم.
لابد من صنعاء وإن طال السفر
#السلطة_للشعب
#الثورة_مستمرة
والعار لمن انقلب عليها.
orwaalsadig@gmail.com