اعلان ماس فيتالس

“حين يفاجئنا الضوء” .. قراءة الذات في مرآة الصوت في اغنية فاجأني النهار  

بقلم: بـــــدرالديــن جمـــال الديــن

“الجــــزء الثــــاني”

يا مولود مظلوم في رئتيك

ميز ريحة  المطرة او اتخيل بيناتنا رزاز

انا حلفت بنات الشجر الماطر

ما تنزل صفقة تعري صفير الريح

يلقى غناها ليل الليل الماطر

في هذا المقطع كثف الراحل مجدي النور دلالات تفتح اللغة على بعد باطني يتجاوز ظاهر العبارة إلى عمق التجربة في بعدها الروحي فالولادة هنا ليست  ولادة  بيولوجية بل كشف والمظلوم في النص لا يعني من سلب حقه المادي ظلما بل المظلوم الحقيقي من فاته النور في الرؤية من وُلد ولم تُمنح له العين التي تبصر ما وراء الشكل فاقد البصيرة

حين يقول الشاعر (ميز ريحة المطرة او اتخيل بيناتنا رزاز) فإنه لا يتحدث عن طقس بل عن إشارات الوجود الدقيقة التي تمر بين الأرواح..  المطر في المخيلة الصوفية ليس مجرد ظاهرة طبيعية بل هو رمز حضور وعتبة عبور من الغيب الى وقرينة الحال ان المطر هو دمعة من الغيب تسقط على الارض فتغسلها وتبث فيها رعشة الحياة كما تبث دمعة العارف رعشة اليقظة في الروح القلب والرزاز هو الوصل الخفي بين الذات ومرآتها في الآخر إنه الكلام الذي لا يُقال والمشاهد التي لا تشاهد بالعين البيولوجية ومن أبصر المطر ببصيرة العارف رأى فيه نورا يتسلل من بين الغيم ليكتب على صفحة الوجود ان الله ما زال ينزل رحماته على من لم ييأس

أما الحلف ببنات الشجر الماطر فهو توقيع عاطفي صوفي بامتياز فيه استعانة بالشهود الرمزية فالشجر في هذا المقام ليس نباتًا بل كائن ينبض والدلالة العاطفية (بنات) والمطر عليه هو فيض المعنى أما الصفقة التي تتنزل فتعرّي صفير الريح فهي لحظة سقوط الحجاب حين تنكشف الأصوات القديمة وتظهر النداءات المدفونة في الريح والوجدان كشف اللهي ونور من الملكوت

(يلقى غناها صرصور الليل الماطر) وفي هذه الخاتمة تتجلى العبقرية الشعرية بأبهى صورها. فالغناء لا يُسمع من الطيور، بل من الصرصور، من ذلك الكائن الذي اعتادت النظرة السطحية أن تهمله أو تنفر منه. ولكن في ظلمة الليل الماطر، يصبح صرصور الليل حاملًا لرسالة، مغنيًا للنشيد الأخير، مؤذنًا لصلاة لم يُسمع لها أذان. الصوت هنا ليس صوتًا للحياة اليومية، بل صوت العزلة، صوت التكرار الروحي الذي لا يملّ التلاوة، هو الإنشاد السرمدي الذي يصدر عن كائن صغير ولكن بروح كبيرة، روح لا تخشى المطر، بل تتمايل فيه كما لو كان وحيًا

هذا النص ليس شعرا كما تعودنا ان يكون الشعر بل هو مناجاة مكتوبة بلغة السر من شاعر كان يرى بالعاطفة ما لا تراه العيون المجردة فيي هذا النص تتآلف الطبيعة والروح الظلم والميلاد الرئة والصوت المطر والرزاز لتصنع مشهدا وجوديا لا يفسر بل يتأمل لا يقرأ بل يتذوق كما تتذوق المناجاة في ساعة السحر انه نص لا يطالبنا بالفهم بل بالانمحاء ان نتخلى عن يقين العقل ونقف عند عتبة السر هناك حيث تنطق الريح وتبكي الشجرة ويغني الصرصور

همسة شجرة لتأني شعاع رباني

شاقي الحلة

يدخل صرة شافع

ويطلع إيقاع نوبة

احنا حفاية في بلدك اتلفتت فوق كتفينا

ود العين ندى وطار

عصفور نبت فيني الريش

صفقت جريت فرحان

النص مترع بفيوض  الجمال الادبي  متجذر في عمق الصوفية حيث تتلاقى الطبيعة مع الروح في مشهد يتجاوز حدود الحواس ليصل إلى عالم النور الإلهي تبدأ الهمسة بين الشجرة فجعل الشاعر الشجر ينطق همسا خيال رفيع والشعاع الرباني كحوار بين الأرض والسماء كأن الطبيعة تستقبل برحمة الإشراق الإلهي فتشعر بالشفاعة والسكينة ( الشاقي الحلة ) الذي يحمل الصرة وهي دلالة الميلاد  هي رمز للباحث عن النور يحمل في طياته بذور الفداء والرحمة بينما إيقاع النوبة ينبض كنبض الروح الصوفية التي تنشد الوحدة والانسجام… وكان مدهشا جدا توحد النغم وبرع الملحن فتحول الى إيقاع النوبة في قالب موسيقي يقودك بسلاسة الى عمق النص ودلالاته الموسيقية لغة تخاطب الوجدان

( احنا حفايه في بلدك اتلفتت فوق كتفينا )… فهذا تعبير عن التواضع والاندماج الكامل في رحاب الوطن الإلهي أو الروحي حيث تنكسر الأنا وتتلاشى الحدود فلا يبقى إلا العشق الخالص (ود العين ندى وطار) كناية الميلاد فود العين في الدارجة السودانية يرمز للبؤبؤ وهو عمق الرؤية ومحل دموع السكينة التي تتحول إلى أمل متجدد حيث الولد هو الامتداد الطبيعي لاستمرار الحياة و(عصفور نبت فيني الريش) رمز لولادة جديدة لفجر داخلي يشرق بالحرية والفرح حتى الصفقة والركض الفرحان تصبح تجليات للنشوة الروحية

في النهاية يعكس النص رحلة روحية تبدأ بالهمس والنور وتصل إلى الانطلاق والفرح رحلة تتماهى فيها الذات مع الكون وتذوب الفواصل بين المادي والميتافيزيقي لتصبح الحياة أغنية صوفية عميقة تتردد أصداؤها في كل نبضة قلب

ما تغطيني إنا عرقان من وهجي الفيني…الذات كائن مشع …

في هذا المطلع من النص نجد ان الذات التي تتعرق من وهجها الداخلي لا تكتفي بان تكون مشعلا يضاء به الخارج بل هي الوهج ذاته النور الذي لا يأتي من لهب خارجي بل من نار داخلية لا تنطفئ.. العرق لا يعتبر تعبيرا عن التعب الجسدي بل عن التماس العميق مع الحقيقة… مع جوهر الوجود… لحظة انكشاف تتجاوز الجسد لتلامس السر الالهي في القلب

هذا الوصال العابر للحجاب ذكرني بالحلاج حين قال رأيت ربي بعين قلبي فسألت من انت… انها لحظة انصهار في نور لا يحتمله الجسد الا بالعرق عرق مشحون بمعنى الكشف والوهج

في هذا الإطار ترجع الذات الى ذلك الانسان الشعري الذي وصفه    غاستون باشلار الانسان الذي لا يكتفي بان يعيش بل يشع ويتوهج ليصبح معنى في ذاته نور لا يخبو

فاجأني النهار تجربة إنسانية مكثفة تنسج فيها اللغة والشعور والزمان والمكان والذاكرة والحلم في نسيج واحد حتى تصبح الذات مرآة لاشواقها ووهجها الداخلي…. انها اغنية البعث لأولئك الذين لا يزالون يملكون نيران التوهج رغم انطفاء كل شيء…كما طائر الفينيق الذي يولد من رماده …

البعد الموسيقي وتأثيرات اللحن:

البعد الموسيقي واللحني في اغنية فأجاني النهار يمنح النص امتدادا حسيا وصوفيا يترجم ما تعجز اللغة وحدها عن قوله فقد برع الفان شمت محمد نور في اللحن فقد أفلح في تحويل الموسيقي من مرافق للنص الى امتداد له.. ايقاع النوبة الذي يتردد في خلفية الاغنية يشبه طقس الحضرة الصوفية.. دائرة لا تبدأ ولا تنتهي حيث يذوب الزمن وتغدو اللحظة حاضرة بشكل مطلق وتجلت براعة الفان شمت في تحريك  اللحن من همس شجي رقيق الى تصاعد وجداني عميق يبدأ بنغمة تمس الحنين وتنتهي في لحظة انخطاف كأنما النص يخوض رحلة من الهدوء الى الغياب الصوفي تتبدل المقامات مع انتقالات الكلمات والتعابير .. الموسيقى في اغنية فأجاني النهار لا تعيد انتاج النص بل تضيء وجها خفيا فيه انها تترجم (وهجي الفيني) الذي يتحدث عنه الشاعر في عبارته ما تغطيني انا عرقان من وهجي الفيني وهج لا ينقله الحرف بل تعيشه النغمة ويرتجف به الصوت.

ولنا لقاء في اتكاءة أخرى ان ربنا مد في الآجال….

يونيو / الرياض

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.